الحبيب ناصري:مهنته هندسة الحياة

 

إلى أسامة وهو يهندس الحياة

شاب مولوع بحبه للحياة. هو قريبي. اقتربت منه في حفل خاص. سألته عما يفعل في الحياة، وهو المهندس خريج مدرسة معمارية عمومية متخصصة في الهندسة المعمارية. سكت، وقال لي يمكن أن تقول إنني أمارس مهنة هندسة الحياة، أو مهندس حياة. أعجبني المفهوم الذي نحته بعد صمته الدال. وعدته بالنبش في هذا المفهوم، ومن خلال مقال بسيط، غير معقد لكي يفهمه الجميع.
يبدو أننا فعلا أمام أجيال جديدة، غير تلك التي ننتمي إليها. اليوم أجيال جديدة تزداد وتجد أمامها الحياة في صيغة تكنولوجية جديدة. هواتف محمولة ولوحات تكنولوجية رهيبة، وخدمات تقنية عن بعد غير مسبوقة.
راح الزمن الذي كان الحي الواحد لا توجد فيه إلا تلفزة واحدة أو تلفزتان. راح الزمن الذي كان الفقر فيها ديموقراطيا يدخل تحته كل الحي. قلة قليلة جدا، هي تلك التي كانت تملك سيارة أو هاتفا خطيا أرضيا. أتذكر أن أختي الحاجة فاطمة كانت الوحيدة في العائلة التي تملك هاتفا منزليا، تم إدخاله نهاية السبعينيات.
فعلا الحياة تغيرت.. لم تعد الوظيفة العمومية جذابة. الحياة الحرة، وبكل حمولتها، هي المرغوب فيها اليوم. الاشتغال الحر، دون التقيد بثقافة “السلاليم” و”الترقية” بعد عشرات الأعوام العجاف.. هو عنوان معظم شباب اليوم. توظيف فيض التكنولوجيات، والمتاح بشكل مجاني، وعبر وسائط بصرية عديدة، وسيلة عمل مربحة، وغير مدخلة لصاحبها في زمن “العبودية” الوظيفي.
أجيال جديدة تزداد، والعالم يتغير، وأجيال أخرى تنقرض، وهي تحمل معها في دواخلها حسرتها على الحياة. صراع الأجيال أو تفاعله أو تناصه أو تكامله، قل ما شئت، وبأي لغة معرفية أو فلسفية أو سياسية، الخ، حتمية زمنية يمر منها الجميع.
فعلا العالم تغير!
تغير، حينما قال لي هذا الشاب الجميل، أنه يمارس مهنة هندسة الحياة.. وهو غير الراغب لا في وظيفة عمومية ولا في فتح مكتب لممارسة عمله، وفق قانون سوق الشغل الحرة.. بل إنه مصر، وعلى الأقل حتى البارحة، على أن يجعل مما يقوم به من عمل إعلامي حر، دخلا، يريحه من التفكير في الوظيفة العمومية أو أجير.. إنه ينظر للحياة من زاوية أخرى غير تلك التي نظرنا منها نحن..
فعلا العالم تغير!
تغير .. والعديد من مكوناته المجتمعية المغربية والعربية لا زال ثابتا غير منسجم مع ما يقع في هذا العالم، خصوصا مدرستنا التي لازالت تلقن بطريقة تقليدية، على الرغم من ألوان جدرانها التي تتجدد بين الفينة والأخرى. مدرسة لازالت غير قادرة على الربط بين محتوياتها، وحاجة المتعلم إلى زمن تكنولوجي رهيب ومتحول وبشكل دائم.
جميل مفهومه للحياة.. بل جميلة هذه المهنة الي يقوم بها.. إنه يهندس الحياة، برؤيته هو بل برؤياه الحالمة بما يريد هو وليس بما يريد غيره أو تقاليده وعاداته.. قلت له استمر في مهنتك هاته.. وطلبت منه أن يقترب مني لكي نرى أنفسنا “أنا وهو” في مرآة كانت قريبة منا. قلت له، إن دور الفنون، وخصوصا السينما، هي أن نتعلم كيف نرى أنفسنا فيها، ومن خلال حدوثة سينمائية جميلة.. نتعلم من خلالها كيف من الممكن أن نتساءل.
كان لقاء جميلا.. انتهى بقولي له..انفتح على بقية المعارف والفنون وخصوصا الفلسفة. قال لي ولماذا الفلسفة؟. قلت له، تعلمنا كيفية التفكير والنقد وطرح السؤال. قال لي وما الجواب ؟. قلت له لا تبحث عن أجوبة جاهزة، بل واجه السؤال بالسؤال، ودع السؤال يحمل جوابه دون أن تطرحه أنت. قال لي وكيف أطرح السؤال؟. قلت له فكر بلغة الطفل، أي لابد من طرح السؤال وبلغة الطفل الذي يتعب أباه، بأسئلة من قبل من هو جدي؟ وأين ربي؟ وما المدرسة ؟ وما الماء ؟ وما الخبز ؟ وما الكأس ؟ ..
ما أجمل أن تكون ممارسا لمهنة هندسة الحياة .. أي أن تكون مهندسا للحياة..

د. الحبيب ناصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا يمكنك النسخ